الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
.الجملة الثالثة في المكاتبات التي كتبت إليه قبل ظهوره صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته: وكتب عنوانه: إلى محمد بن عبد الله خاتم المرسلين ورسول رب العالمين صلى الله عليه، من تبع الأول حمير، أمانة الله في يد من وقع إليه أن يدفعه إلى صاحبه. ودفعه إلى رئيس العلماء الذين رتبهم بالمدينة، فبقي عنده وعند بنيه يتداولونه واحداً بعد واحدٍ، حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلقيه الذي صار الكتاب إليه يومئذٍ من بني ذلك العالم في طريق المدينة ودفع إليه الكتاب. وأما الكتب التي تكتب إليه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فقد جرت عادة الأمة من الملوك وغيرهم بكتابة الرسائل إليه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بالسلام والتحية والتوسل والتشفع به إلى الله تعالى في المقاصد الدنيوية والأخروية، وتسييرها إلى تربته صلى الله عليه وسلم. وأكثر الناس معاطاةً لذلك أهل المغرب لبعد بلادهم، ونزوح أقطارهم. ومن أحسن ما رأيت في هذا المعنى ما كتب به ابن الخطيب وزير ابن الأحمر بالأندلس وصاحب ديوان إنشائه عن سلطانه يوسف بن فرج بن نصر: [طويل] إلى رسول الحق، إلى كافة الخلق، وغمام الرحمة الصادق البرق، والحائز في ميدان اصطفاء الرحمن قصب السبق، خاتم الأنبياء، وإمام ملائكة السماء، ومن وجبت له النبوة وآدم بين الطين والماء، شفيع أرباب الذنوب، وطبيب أدواء القلوب، ووسيلة الخلق إلى علام الغيوب، نبي الهدى الذي طهر قلبه، وغفر ذنبه، وختم به الرسالة ربه، وجرى في النفوس مجرى الأنفاس حبه، الشفيع المشفع يوم العرض، المحمود في ملإ السماء والأرض، صاحب اللواء المنشور يوم النشور، والمؤتمن على سر الكتاب المسطور، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، المؤيد بكفاية الله وعصمته، الموفور حظه من عنايته وحرمته، الظل الخفاق على أمته، من لو حازت الشمس بعض كماله ما عدمت إشراقاً، أو كان للآباء رحمة قلبه ذابت نفوسهم إشفاقاً، فائدة الكون ومعناه وسر الوجود الذي بهر الوجود سناه، وصفي حضرة القدس الذي لا ينام قلبه إذا نامت عيناه، البشير الذي سبقت له البشرى، ورأى من آيات ربه الكبرى، ونزل فيه {سبحان الذي أسرى} من الأنوار من عنصر نوره مستمدة، والآثار تخلق وآثاره مستجدة، من طوي بساط الوحي لفقده، وسد باب الرسالة والنبوة من بعده، وأوتي جوامع الكلم فوقفت البلغاء حسرى دون حده، الذي انتقل في الغرر الكريمة نوره، وأضاءت لميلاده مصانع الشام وقصوره، وطفقت الملائكة تحييه وفودها وتزوره، وأخبرت الكتب المنزلة على الأنبياء بأسمائه وصفاته، وأخذ عهد الأنبياء به على من اتصلت بمبعثه منهم أيام حياته، المفزع الأمنع يوم الفزع الأكبر، والسند المعتمد عليه في أهوال المحشر، ذي المعجزات التي أثبتتها المشاهدة والحس، وأقر بها الجن والإنس، من جمادٍ يتكلم، وجذعٍ لفراقه يتألم، وقمرٍ له ينشق وشجر يشهد أن ما جاء به هو الحق، وشمسٍ بدعائه عن مسيرها تحبس، وماء من بين أصابعه يتبجس، وغمام باستسقائه يصوب، وطوًى بصق في أجاجها فأصبح ماؤها وهو العذب المشروب، المخصوص بمناقب الكمال وكمال، المناقب، المسمى بالحاشر العاقب، ذي المجد البعيد المرامي والمراقب، أكرم من رفعت إليه وسيلة المعترف المغترب، ونجحت لديه قربة البعيد والمقترب، سيد الرسل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي فاز بطاعته المحسنون، واستنقذ بشفاعته المذنبون، وسعد باتباعه الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، صلى الله عليه وسلم ما لمع برق وهمع ودق، وطلعت شمس، ونسخ اليوم أمس: من عتيق شفاعته، وعبد طاعته، المعتصم بسببه، المؤمن بالله ثم به، المستشفي بذكره كلما تألم، المفتتح بالصلاة عليه كلما تكلم، الذي إن ذكر تمثل طلوعه بين أصحابه وآله، وإن هب النسيم العاطر وجد فيه طيب خلاله، وإن سمع الأذان تذكر صوت بلاله، وإن ذكر القرآن استشعر تردد جبريل بين معاهده وحلاله، لاثم تربه، ومؤمل قربه، ورهين طاعته وحبه المتوسل به إلى رضى ربه، يوسف بن إسماعيل بن نصر: كتبته يا رسول الله والدمع ماح، وخيل الوجد ذات جماح، عن شوق يزداد كلما نقص الصبر، وانكسارٍ لا يتاح له إلا بدنو مزارك الجبر، وكيف لا يعنى مشوقك بالأمر، ويوطيء على كبده الجمر، وقد مطلت الأيام بالقدوم على تربتك المقدسة اللحد. ووعدت الآمال ودانت بإخلاف الوعد، وانصرفت الرفاق والعين بنور ضايحك ما اكتحلت، والركائب إليك ما رحلت، والعزائم قالت وما فعلت، والنواظر في تلك المشاهدة الكريمة لم تسرح، وطيور الآمال عن وكور العجز لم تبرح، فيا لها من معاهد فاز من حياها، ومشاهد ما أعطر رياها، بلادٌ نيطت بها عليك التمائم، وأشرقت بنورك منها النجود والتهائم، ونزل في حجراتها عليك الملك، وانجلى بضياء فرقانك فيها الحلك، مدارس الآيات والسور، ومطالع المعجزات السافرة الغرر، حيث قضيت الفروض وحتمت وافتتحت سورة الوحي وختمت، وابتدئت الملة الحنيفية وتممت، ونسخت الآيات وأحكمت. أما والذي بعثك بالحق هادياً، وأطلعك للخلق نوراً بادياً، لا يطفيء غلتي إلا شربك، ولا يسكن لوعتي إلا قربك، فما أسعد من أفاض من حرم الله إلى حرمك وأصبح بعد أداء ما فرضت عن الله ضيف كرمك، وعفر الخد في معاهدك ومعاهد أسرتك، وتردد ما بين داري بعثتك وهجرتك!. وإني لما عاقتني عن زيارتك العوائق وإن كان شغلي عنك بك، وعدتني الأعداء فيك عن وصل سببي بسببك وأصبحت ما بين بحرٍ تتلاطم أمواجه، وعدو تتكاثف أفواجه، ويحجب الشمس عند الظهيرة عجاجه في طائفةٍ من المؤمنين بك وطنوا على الصبر نفوسهم، وجعلوا التوكل على الله وعليك لبوسهم، ورفعوا إلى مصارختك رؤوسهم، واستعذبوا في مرضاة الله تعالى ومرضاتك بوسهم، يطيرون من هيعةٍ إلى أخرى، ويتلفتون والمخاوف يمنى ويسرى، ويقارعون وهم الفئة القليلة جموعاً كجموع قيصر وكسرى، لا يبلغون من عدو كالذر عند انتشاره معشار معشاره، قد باعوا من الله تعالى الحياة الدنيا، لأن تكون كلمة الله تعالى هي العليا، فيا له منسرب مروع، وصريخ إلا عنك ممنوع، ودعاء إلى الله وإليك مرفوع وصبيةٍ حمر الحواصل، تخفق فوق أوكارها أجنحة المناصل، والصليب قد تمطى ومد ذراعيه، ورفعت الأطماع بضبعيه، وقد حجبت بالقتام السماء، وتلاطمت أمواج الحديد، والبأس الشديد فالتقى الماء، ولم يبق إلا الذماء، وعلى ذلك فما ضعفت البصائر ولا ساءت الظنون، وما وعد به الشهداء تعتقده القلوب حتى تكاد تراه العيون، إلى أن نلقاك غداً إن شاء الله تعالى وقد أبلينا العذر، وأرغمنا الكفر، وأعملنا في سبيل الله وسبيلك البيض والسمر. استنبت رقعتي هذه لتطير إليك من شوقي بجناحٍ خافقٍ، وتسعد من نيتي التي تصحبها برفيق موافق، فتؤدي عن عبدك وتبلغ، وتعفر الخد في ترتبك وتمرغ، وتطيب برياً معاهدك الطاهرة وبيوتك، وتقف وقوف الخشوع والخضوع تجاه تأبوتك، وتقول بلسان التملق، عند التشبث بأسبابك والتعلق، منكسرة الطرف، حذراً بهرجها من عدم الصرف: يا غياث الأمة، وغمام الرحمة، إرحم غربتي وانقطاعي، وتغمد بطولك قصر باعي، وقو على هيبتك خور طباعي. فكم جزت من لج مهول، وجبت من حزون وسهول، وقابل بالقبول نيابتي، وعجل بالرضا إجابتي. ومعلومٌ من كمال تلك الشيم، وسجايا تيك الديم، أن لا تخيب قصد من حط بفنائها ولا يظمأ واردٌ أكب على إنائها. اللهم، يا من جعلته أول الأنبياء بالمعنى وآخرهم بالصورة، وأعطيته لواء الحمد يسير آدم فمن دونه تحت ظلاله المنشورة، وملكت أمته ما زوي له من زوايا البسيطة المعمورة، وجعلتني من أمته المجبولة على حبه المفطورة، وشوقتني إلى معاهده المبرورة، ومشاهده المزورة، ووكلت لساني بالصلاة عليه، وقلبي بالحنين له، ورغبتني بالتماس ما لديه، فلا تقطع عنه أسبابي، ولا تحرمني في حبه أجر ثوابي، وتداركني بشفاعته يوم أخذ كتابي. هذه، يا رسول الله، وسيلة من بعدت داره، وشط مزاره، ولم يجعل بيده اختياره. فإن لم يكن للقبول أهلاً فأنت للإغضاء والسماح أهل، وإن كانت ألفاظها وعرةً فجنابك للقاصدين سهل، وإذا كان الحب يتوارث كما أخبرت، والعروق تدس حسب ما إليه أشرت، فلي بانتسابي إلى سعدٍ عميد أنصارك مزية، ووسيلةٌ أثيرةٌ خفية، وإن لم يكن لي عملٌ ترتضيه فلي نية. فلا تنسني ومن بهذه الجزيرة المفتتحة بسيف كلمتك، على أيدي خيار أمتك، فإنما نحن بها وديعةٌ تحت بعض أقفالك، نعوذ بوجه ربك من إغفالك، ونستنشق من ريح عنايتك نفحة، ونرتقب من نور محيا قبولك لمحة، ندافع بها عدواً طغى وبغى، وبلغ من مضايقتنا ما ابتغى. فمواقف التمحيص قد أعيت من كتب وورخ، والبحر قد أصمت من استصرخ، والطاغية في العدوان مستبصر، والعدو محلق والولي مقصر. وبجاهك ندفع ما لا نطيق، وبعنايتك نعالج سقيم الدين فيفيق، فلا تفردنا ولا تهملنا، وناد ربك فينا {ربنا ولا تحملنا} وطوائف أمتك حيث كانوا عنايةٌ منك تكفيهم، وربك يقول لك وقوله الحق: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} والصلاة والسلام عليك يا خير من طاف وسعى، وأجاب داعياً إذا دعا، وصلى الله على جميع أحزابك وآلك، صلاةً تليق بجلالك، وتحق لكمالك، وعلى ضجيعيك وصديقيك، وحبيبيك ورفيقيك، خليفتك في أمتك، وفاروقك المستخلف بعده على جلتك، وصهرك ذي النورين المخصوص ببرك ونحلتك، وابن عمك سيفك المسلول على حلتك، بدر سمائك ووالد أهلتك، والسلام الكريم عليك وعليهم كثيراً أثيراً ورحمة الله وبركاته. من حضرة جزيرة الأندلس غرناطة صانها الله ووقاها، ودفع عنها ببركتك كيد عداها. .الطرف الثاني في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا إلى الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم: الجملة الأولى في ترتيب هذه المكاتبات على سبيل الإجمال: كانت المكاتبة إليهم تفتتح تارةً بلفظ من فلان إلى فلانٍ ويؤتى في الصدر بالسلام والتحميد على نحو ما تقدم في المكاتبة عن الخلفاء. ويقع التخلص إلى المقصود بأما بعد وتارةً يقع الافتتاح بأما بعد ويؤتى بالمقصود تلو ذلك، ويعبر المكتوب عنه فيها عن نفسه بلفظ الإفراد، وعن الخليفة بأمير المؤمنين، وتحتم بالسلام على أمير المؤمنين. الجملة الثانية في صورة هذه المكاتبات: وهي على أسلوبين كما تقدمت الإشارة إليه: الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلفظ لفلان من فلان: وكان الرسم فيها أن يكتب لعبد الله فلانٍ أمير المؤمنين، سلامٌ عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن كذا. كما كتب عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جواب الكتاب منه إليه المقدم ذكره في المكاتبة عن الخلفاء من الصحابة، وهو: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، سلامٌ عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه فاشية مالٍ فشا لي، وإنه يعرفني قبل ذلك ولا مال لي، وإني أعلم أمير المؤمنين أني ببلدٍ السعر فيه رخيص، وإني أعالج من الزراعة ما يعالجه الناس، وفي رزق أمير المؤمنين سعةٌ. ووالله لو رأيت خيانتك حلالاً ما خنتك، فأقصر أيها الرجل فإن لنا أحساباً هي خيرٌ من العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها! ولعمري إن عندك من لا يذم معيشة ولا تذم له، فإن كان ذلك فلم يفتح قفلك ولم يشركك في عملك؟ الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بلفظ أما بعد ويتوصل منه إلى المقصود: كما كتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية وهو على بعض أعماله يستعفيه عن العمل. أما بعد، فقد كبر سني ورق عظمي واقترب أجلي وسفهني سفهاء قريش، فرأي أمير المؤمنين في عمله.
|